وكالة أنباء الحوزة ـ تكلّم الإمام موسى الصدر بکلام أصغى إليه الجميع، إذ التف حوله المسلمون والمسيحيون إضافة إلى المثقفين وأهل الفكر والقلم.
يحكى أن جمعًا من العلماء والفقهاء كانوا في مجلسٍ للإمام موسى الصدر في مدينة صور. نهض فجأة وطلب منهم أن يهِمّوا معه، حتى وصل إلى محل "أبو سليم أنتيبا"، بائع البوظة المسيحي. فجلسوا على الطاولات، وطلب منه أن يطعمهم "الدوندرمة"، أي البوظة بالتركية. وغدا الجمع في همهمة واستغراب. فأجابهم الامام الصدر دون سؤال:" ألم يذكر القران الكريم عن أهل الكتاب (( وطعامهم حل لكم، وطعامكم حل لهم )".
الواقع أن في بساطة هذه القصة مضامين أكثر تعقيدًا، إذ تختصر طرحًا فكريًا قرآنيًا لقيادة وحلّ مشاكل التأجيج الطائفي الذي يعمد الاستعمار إلى إذكائه. وفي الإطار الفكري، يقول الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله: "شجع الإمام الصدر أُسس الطرح الايجابي خارج دائرة السلبية والرفض المطلق لكل شيء". ويضيف سماحته: " لو عدنا لنقرأ ما أمكن جمعه من خطب وبيانات ومؤتمرات صحفية وكلمات للإمام الصدر،يمكننا القول بشكل قاطع أن هذه المواقف تستطيع أن تكون من أفضل الدلائل للتعاطي مع ساحتنا في المرحلة الحالية، على كل الخطوط وفي شتى الميادين، وبمواجهة المجموعة الكبرى من التقنيات التي تعيشها ساحتنا أيضاً".
ويبدو أن الإمام الصدر "تكلّم كلامًا يصغي إليه الجميع"، إذ التف حوله المسلمون والمسيحيون إضافة إلى المثقفين وأهل الفكر والقلم. وفي هذا السياق يقول الأب بولس مطر: " كان معلماً في الوطنية والدين، لأنه ميز بين العبادات وبين المعاملات".
وعلى إثر الهزائم العربية وإرهاصات أحداث القرن الماضي، يتأمل الفيلسوف الجزائري مالك بن نبي في نظريته "القابلية للاستعمار"، فيتساءل: "لماذا يركن المسلم دون سواه من الشعوب كالصيني والياباني مثلا الى العناصر القاتلة في الحضارة الغربية؟" ويجيب: "لأن موقفنا من مشكلة الثقافة ليس صحيحًا، لا من الناحية الفكرية ولا من الناحية الاجتماعية". والثقافة في رأي الفيلسوف الجزائري، ترسم الحدود الجغرافية والانسانية، "وعلى حدود ثقافتين متحاورتين تحدد الثقافة أسلوبها بين أن تكون ثقافة سيطرة أو ثقافة انفتاح".
من جهته كان الإمام الصدر في هذه المرحلة، يؤسس لشروط النهضة بشكل عملي، وذلك على الخلفية الفكرية التي ترى بأن "الإنسانَ محور الوجود وسرُّه، والذي كانت من أجله الأديان". وعمل الإمام على تأسيس شخصية الفرد الاجتماعية التي ترى الأديان كحقيقة حضارية جامعة.
ويرى الامام الصدر أن الطائفية هي نتيجة "تحول الأنانية من الذاتية إلى الجماعة"، ويعتبر أنّ الحلّ هو في العودة إلى "الأديان التي جاءت لتعلّم الإنسان السلوك في سبيل السلام". وفي السياق عينه، يروي الصحافي علي كامل جشي، الذي رافق الامام الصدر الى نيجيريا: عندما سأله أحد الصحافيين عن هدف الزيارة فأجاب سماحته: "جئت لأزور قومي". فعاتبه أحد أصدقائه متمنيًا لو أنه أجاب بأنه جاء لزيارة المسلمين والمسيحيين اللبنانيين. فكان رده: "إن الله كالنهر وكل قوم او فئة أكانت مسلمة او مسيحية او يهودية تشكل ترعة توصلها الى النهر فيعبد الجميع إلهاً واحداً وينصهرون روحياً وانسانياً ولا فرق إذ ذاك بين فئة وفئة الا بالتقوى".
هذه النظرة الإنسانية التي أخرجها الامام موسى الصدر من صميم الدين، شكّلت عماد فلسفته السياسية، إذ يعتبر أن هدف السياسة هو رفعة الإنسان، وقد نجحت هذه النظرة في توحيد صفوف اللبنانيين المتنازعين منذ ما قبل الاستقلال والانتداب من جهة، وفي وضع المحرومين والمهمشين على خريطة لبنان السياسية والتنموية من جهة ثانية. وفي هذا السياق يقول رئيس الوزراء اللبناني الأسبق سليم الحص: " ما عدنا نقول في أيامه مسلم أو مسيحي او كذا، كنا نقول اللبنانيون جميعاً يقولون كذا، ويطالبون بكذا، ويسعون إلى كذا. صارت الكلمة للبنانيين جميعاً، انتهينا بفضل مساعيه ومداخلاته من قصة هذا وذاك".
وبخصوص الخطر الإسرائيلي، يعتبر الإمام المغيّب، أن "السلم الاهلي أفضل وجوه الحرب ضد اسرائيل". إذ الطوائف "نوافذ حضارية وثقافية تتكامل في تعدديتها وتشكّل تماسكاً وتلاحماً". وينتقد سماحته أولئك "الذين يفكرون أن الوطن يحفظ في الصالونات أو بالتصريحات والاجتماعات في القصور. وأن الحدود تحفظ بالوعود والكلمات وأن الكرامات تصان بالألقاب".
الواقع أنه في الزمن الذي نجحت فيه الوهابية بتصدير التطرف واللانسانية، تأتي ذكرى تغييب السيد موسى الصدر مختلفة. والأكيد أن تجربته التي لم يرد لها المتآمرون أن تعيش أكثر من 18 سنة، كانت لتنتشر في الأجواء العربية المشتتة. خاصة بعد تجربة انتصار الثورة الإسلامية في إيران، وهو الذي تخرّج من فكرها وكان فاعلًا فيها. وبالعودة إلى كلام الأمين العام يضيف سماحته: " تجربة الإمام موسى الصدر وفكره وخطه ونهجه بقيت غضة، لم تتحول إلى فكر كلاسيكي يوضع في المتاحف، ونشعر اليوم أنها حاضرة أكثر من ثلاثين سنة مضت".